الأسوأ من المحاصصة

.

المقاله تحت باب  في السياسة
في 
17/09/2009 06:00 AM
GMT



الأسبوع الماضي شهد مزيدا من الأحداث العراقية «الخاصة» التي يندر أن تجد مثيلتها في بلد آخر، ففي الوقت الذي كانت الحكومة (وبقدر معقول من الانسجام بين رئيس الوزراء ووزير خارجيته) تخوض أول مواجهة حقيقية مع الجوار من أجل خلق رأي عام دولي رافض بوضوح لهذا الاستسهال في سفك الدم العراقي وللتدخلات التي يبدو أن أولئك الذين يبحثون عن دليل عنها إنما يمارسون تذاكيا ساذجا، تقوم هيئة الرئاسة بإصدار بيان يكشف ظهر الحكومة ويقدم مزيدا من البراهين على أن العراقيين غير متفقين حتى في مواجهة من يقتلهم أو يرعى قاتليهم لأغراض سياسية، مجلس الرئاسة يقرر أن هناك ضرورة لاتباع الطرق الدبلوماسية وكأن العراق كان قد بدأ بشن حرب، وكأن المطالبة بمحكمة دولية ليست إجراء دبلوماسيا، غير أن الدهشة تتلاشى حالما يكمل المجلس بيانه بأنه يصر على استشارته في الأمور المهمة والحساسة، وهنا تتحول قضية تقنية ومؤسساتية ثانوية إلى أولوية استراتيجية يصبح معها إضعاف موقف العراق وموقف وزير خارجيته الذي كان على وشك بدأ مفاوضات مع نظيره السوري أمرا مقبولا! والسؤال المحير الذي لا يقل أهمية هو أنه إذا كان الجميع بما فيهم أعضاء مجلس الرئاسة وأعضاء البرلمان يتحدثون عن تدخلات الجوار ولا ينفونها، كيف سيكون بإمكان العراق أن يواجه أيا من دول هذا الجوار إذا كان السياسيون سينبرون لنفي تدخل هذه الدولة أو تلك إما لأسباب طائفية أو عرقية أو «شخصية» وهذا ما يبدو أنه أسوأ من المحاصصة، وإذا كان الأمر يتعلق بدماء العراقيين التي استرخصت بشكل مستفز طوال السنوات الماضية، فما معنى «تجنب التصعيد» ما معنى أن يقتل الآخر أبناءك أو يسهل قتلهم ثم عليك أن لا تتذمر ولا تشتكي، ثم إذا كان الجميع يجمع على أن المحكمة الدولية ليست موجهة ضد أي بلد، بل إنها في الحقيقة إجراء رادع بعد أن اتضح أن جوار العراق يستعد لخوض صراع مسلح كبير بدماء العراقيين قبل الانتخابات القادمة، ما جدوى إصدار بيان يلمح بعدم اتفاق العراقيين ويضعف موقف المفاوض العراقي الذي يحتاج كما جيرانه إلى أوراق يهدد بها وظهر متماسك يتكئ عليه؟
ليس هناك جواب سوى أن مجلس الرئاسة، المنزعج من عدم استشارته وله حق في هذا الانزعاج إذ لا يعقل أن يسمع بتطورات هكذا أزمة دون أن يشرك أو يطلع عليها، فيندفع البعض للتصرف بطريقة تعكس طبيعة الطبقة السياسية الحالية التي لم تكتف بجعل الولاءات الطائفية والعرقية مرشدا لمواقفها، بل صارت تقدم الشخصي على العام، والثانوي على الاستراتيجي، فلأن البعض لا يريد لرئيس الوزراء أن يكسب رصيدا شعبيا فإنه لا يمانع من إضعاف موقفه في مواجهة الأطراف الخارجية، بالمقابل الطرف الآخر يشكو من البدء بمحاولات تسقيطية تمهيدا للأجواء الانتخابية موظفا إمكانات الدولة ولا يتورع بالضرب تحت الحزام.
في الأسبوع الماضي ظننت بأننا نعيش في أجواء ما بعد الثورات التي عادة ما تعقبها الفوضى واضطراب الصلاحيات والتنازع، فيمتلئ الهواء بالكم الكبير من التصريحات المتطايرة في كل اتجاه، ولكن المشكل أن ليس أي من هذه الثورات من أخذت ست سنين ولم تبلغ الرشد، ولا فيها من رعى العالم كله تجربتها وتطلع إليها، ولا هناك فيها هذا الكم من تضحيات شعبها التي تحتم عليها أن ترتقي إلى مسؤولية ذلك، ولا ما أنفق عليهم من تعليم أو تثقيف وورشات عمل في الممارسة الديموقراطية بدا أنها قد نفعت، ولا اتعظوا من تجارب دول وشعوب أخرى كلها ماثلة ومايزوا بين من اختط منها طريق النجاح ومن لا يزال يراوح في الفشل، ولا من تجاربهم هم أنفسهم إذ لا معارضة مثلهم شردت ونكل بها فأقل ما عليها أن تتعظ وتحمد الله على نعمائه التي سخرت لها الظروف الدولية لتمتطيها لتصل للحكم فكان حري بها أن تميز بين عقلية المعارض وعقلية الحاكم.
فبجانب ما سبق فإن الأسبوع المنصرم كان محملا بأمثلة على ذلك وهذه المرة أبت إلا أن تستكمل السلطات الثلاث تشاركها في رسم مشهد الإخفاق، فكان أكثرها تراجيدية هو الصراع بين المحكمة الجنائية وديوان الرقابة المالية، فوسط تشكيك متبادل بالنزاهة بين الطرفين الذين يفترض أنهما أهم مرجعين «للعدالة القضائية» و«العدالة المالية» الذين يركن إليهما لتقويم أداء بقية المؤسسات والأفراد، ووصل النزاع إلى إصدار أمر إلقاء قبض بحق رئيس ديوان الرقابة المالية، وهكذا يغيب الخط الفاصل بين العام والشخصي، بين المؤسسة وأفرادها، ولا تعرف بعد ذلك لأي مرجعية تركن إذا كان القضاء نفسه محلا للشك.
إن الأزمة في العراق تتعلق أساسا بطبيعة الشخصية والثقافة العراقيتين، فنحن لدينا اليوم الكثير من المؤسسات (وحتى أكثر مما ينبغي) إلا أننا نفتقر إلى العقلية المؤسساتية، كما أن لدينا ديمقراطية لكننا نفتقر إلى ديمقراطيين. تغيب عندنا ثقافة المؤسسات، ولغة التعاون والتخصص، تطمر الحدود والقواعد وتمطط المسؤوليات عندما تتضخم الأنا فتغدو أكبر من أي مؤسسة تحتويها، ما زلنا نحنُ إلى وجود «الأخ الأكبر» الذي يقبع في عليائه بعيدا عنا، يبدو كأسطورة أكثر من حقيقة، إرادته فوق القانون بل هي القانون ما دام يمتلك القبضة الحديدية التي تجبر الجميع على القبول أو السكوت. إننا في كل تصرفاتنا وإخفاقاتنا نغازل هذا الحنين وكأن في داخلنا وازعا لا نقاومه باتجاه أن نثبت أننا غير جديرين بأفضل مما نحن فيه..